كن سفيهاً تصبح أكثر وطنية بقلم علاء الغطريفى ٣٠/ ١١/ ٢٠٠٩ |
يجثو على ركبتيه ليضع فى يد أحد السائحين بعضا من حبات الذرة ليرميها للحمام أمام «دومو»، أشهر الكنائس فى ميلانو الإيطالية، ليحصل على بعض النقود ليعيش.. رمقنى بنظرة ذليلة عندما عرف من هيئتى أننى مصرى، ألقيت عليه السلام، فرد بتحفظ عدائى، لم ينتظر لأحادثه فعاجلنى بغضب قائلا: «هم فعلوا بى ذلك، السبت الماضى أحد المصريين مات تحت إحدى البنايات من الصقيع بعد أن فشل فى إيجاد مأوى، ومصرى آخر يحاكم حاليا لأنه حاول اغتصاب فتاة أمريكية»، لم أسمع ما قال بعدها، فكان مزيجا من الشكوى والتبرير والبكاء. طاردتنى صورة هذا الشاب طوال الأسابيع الماضية، أثناء متابعة تداعيات مباراة مصر والجزائر، التى فى القلب منها حديث نجل الرئيس لبعض الفضائيات. ووضعنى عقلى فى مقارنة بين المناسبتين: فى الأولى الشاب يبكى شاكيا بلاده التى لم تعره اهتماما، فاستقل قارب الموت أربع مرات ليهرب من جحيم الحاجة، والأخرى لنجل الرئيس، وإعلام مستنفر، وغوغاء يطلقون أحط الشتائم والأوصاف، تحت راية الدفاع عن كرامة مصر.. وبينهما تساؤلات عن الغضب لتداعيات مباراة كرة دخلت نفق السياسة المظلم، ومثلها عن غياب الإرادة لحماية شباب هزمناهم فى مصر قبل أن نهزمهم فى شوارع أوروبا، ومن ثم أتساءل: ألم يكن أجدى بنجل الرئيس أن يغضب لخبر مثل وفاة شاب مصرى فى طرقات أوروبا أكثر من غضبه على كرة القدم.. ألم يكن أولى به أن يختار ظهوره الأول فى قضية محورية فى حياتنا، ولا ينضم إلى آلاف المتعصبين الذين شغلتهم الهزيمة فى المباراة أولا، قبل أن تشغلهم إهانات الجزائريين؟! المهزوم يبحث بعد انكساره عن شماعة ليعلق عليها أخطاءه ويغرق فى دوامة التبرير، للهروب من الفشل فى حيازة النصر على البساط الأخضر، فلو فزنا وقتل البعض، كانت المسائل ستختلف جملة وتفصيلا، ولو رسم أحدنا سيناريو فى خياله سيجد الأمور جد لطيفة، فالقتلى سيصبحون شهداء ويزور شحاتة وأولاده أسرهم، وستطغى هتافات النصر فى موقعة المونديال على ما دونها من آلام وأحزان. أغار مثل الآخرين على وطنى ولكن أغار أكثر على شباب مصريين لجأ أحدهم إلى أن يتسول بحبات الذرة، وآخر لقى حتفه من الصقيع، وثالث تنتظره عقوبة سالبة للحرية، لأننا خناهم جميعا ولم ندافع عنهم وألقينا بهم إلى مصير مجهول.. والخيانات كثيرة فهى تبدأ يوميا منذ الصباح حتى المساء، فهى فى الشارع، فى العمل، فى السياسة. لقد عشقنا خيانة أنفسنا، نصرخ على كرة تتقاذفها الأقدام، ولا نصرخ عندما نصبح نحن الكرة فى لعبة قذرة غير قانونية. وشغلنى فى هذه الملهاة، التى تذكرك بسوداوية أعمال أبى العلاء المعرى وجحيم «دانتى»، أن المنطق تم شنقه على مقصلة التعصب، فسارت الأمور فى سياق دراماتيكى يعجز عن صنعه الروائيون العظام، فالخاسرون يستقبلهم الرئيس استقبال الفاتحين، ويحصلون على ستة ملايين جنيه! وشركات ورجال أعمال ينشرون إعلانات استنكار لما حدث فى السودان وتأييدا للرئيس ونجليه لمواقفهم فيما يخص المباراة، ورؤساء تحرير حكوميون يضعون مقياسا جديدا للوطنية، وهو «كن سفيها تصبح أكثر وطنية»، فأنت وطنى بقدر تعصبك.. وكانت أقسى صور اللامنطق، ترديد بعض العامة مقولات مثل: الجزائر هى العدو قبل إسرائيل. فى البلاد التى لا تعرف المنطق، تكريم المهزومين والفاسدين شريعة، والسؤال خطيئة، وتغييب العقل حياة، والاستسلام للغوغاء فريضة، ومن ثَم تذكروا أن أبطالنا فى معركة التحرير فى الألفية الثالثة هم: مدحت شلبى وعلاء صادق ومحمد شبانة ومصطفى عبده وخالد الغندور وآخرون.. عليكم أن تحفظوهم عن ظهر قلب حتى يرضون عنا، فهم منحوا الوطن أكثر مما منحه «محمد السيد سعيد» وكتيبة النضال المصرية طيلة عقود. |